أحسن الدين
آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء، وذلك أن المهاجرين حين قدموا إلى المدينة وقد تركوا أموالهم وأولادهم فرارا بدينهم، نزلوا على إخوانهم من الأنصار. وكان الأنصار حديثي عهد بالإسلام ولكنهم كانوا على أخلاق رفيعة وصفات عجيبة من البر والإحسان والإكرام حتى وصفهم الله تعالى في كتابه (يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) والخصاصة شدة الحاجة. وقد عين رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل مهاجر أحد الأنصار وآخى بينهما بعقد للأخوة لم تعرفه البشرية من قبل. حتى أنهم كانوا يتوارثون بهذا العقد ، حتى أنزل الله عز وجل (وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ).
وفي يوم زار سلمان أخاه أبا الدرداء فلم يجده، ولكنه رأى زوجته أم الدرداء متبذلة (أي قد أهملت زينتها وهندامها، ويبدو أن هذا كان قبل فرض الحجاب) فتعجب سلمان من هيئتها وسألها: ما شأنك؟. قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا (أي أنه زاهد في الدنيا معرض عنها وأنه يهملها ولا يهتم بها اهتمام الزوج بزوجته). فلما رجع أبو الدرداء إلى بيته صنع لسلمان طعاماً، فقال له: كل فإني صائم (أي صيام نافلة) ، قال سلمان: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل. فلما كان أول الليل قام أبو الدرداء ليصلي، فقال له سلمان: نم ، فنام. ثم أراد أن يقوم بعد فترة فقال له سلمان مرة أخرى: نم. فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن . فصليا جميعاً (ظاهره أنهما صليا معا جماعة ، ولكن يحتمل أنهما صليا في نفس الوقت وكل منهما يصلي وحده . وصلاة النافلة جماعة جائزة، لكن لا تفعل دائماً ، وإنما تفعل أحياناً ، فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الليل جماعة مع ابن عباس رضي الله عنهما ، ومع حذيفة بن اليمان ، ومع عبد الله بن مسعود ، ولكن هذا يفعل أحياناً ولا يُداوم عليه).
وبعد أن انتهيا من الصلاة، قال سلمان لأبي الدراداء: إن لربك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً ، وإن لأهلك عليك حقاً ، فأعط كل ذي حق حقه. وفي الصباح أتى أبو الدرداء النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ليعرف مدى صحة رأي سلمان، فقال النبي صلي الله عليه وسلم مقرا بفعل ورأي سلمان (صدق سلمان).
ديننا دين الوسطية في الفكر والعمل، وحتى العبادة نهينا عن التشدد فيها وأمرنا بالاقتصاد فيها حتى تتوازن حياتنا. وكلمة سلمان رضي الله عنه كلمة جامعة تنبه على أن على المسلم حقوقا متنوعة وعليه أن يوازن حياته بينها جميعا، وألا يميل لجانب واحد منها ويعرض عن الباقي. وإنها مسألة دقيقة تحتاج لوعي ولتصور صحيح للطريقة التي نصرف بها جهودنا وأوقاتنا وطاقاتنا، وأن نتذكر هذه الكلمة النيرة (فأعط كل ذي حق حقه). وحياة النبي صلى الله عليه وسلم نموذج كامل لهذا التوازن. فكان يعطي نفسه حقها عليه من الطاعة والعبادة والتزكية، وكان يتعاهد أزواجه وأولاده بالرعاية والدعوة والخدمة، وكان رسولا للعالمين لا يمنعه تأخر دخول العرب في الإسلام أن يكاتب الفرس والروم وملوك الأرض يدعوهم للإسلام. ولا تمنعه مكائد اليهود والمنافقين في المدينة أن يجد وقتا لملاطفة أزواجه وملاعبة أحفاده. ولا يؤخره استقبال الوفود العديدة التي ازدحمت بها المدينة المنورة بعد فتح مكة، أن يتأخر في استقبال بعضها حتى يُتمَ ورده من القرآن قبل أن يخرج إليهم كما فعل مع وفد الطائف. إنها حياة متوازنة إلى آخر رمق، حتى كانت آخر وصاياه لمن حوله وهو يحتضر (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم).
هل راجعت حياتك لتجد قدر هذا التوازن فيها؟