إنهم العلماء!!
لو صلح علماء الأمة صلح أمرها، ولو فسدوا فكيف نرجو صلاحًا؟! ولهذا ليس من فراغٍ أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ"[21]، وليس من فراغٍ أن يقول: "إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير"[22].
وهكذا في أوائل سنة (505هـ)\1111م بدأت تجميع الجيوش الإسلامية على نطاق أوسع، وكان مركز التجمع هو مدينة الموصل، حيث الزعيم المجاهد مودود بن التونتكين، وحيث الشعب الفاهم الذي يمثِّل عماد الجيوش ومركز ثقله.
وجاءت الجيوش من هنا وهناك، فخرج الأمير مسعود من بغداد، وخرج أيضًا سقمان القطبي من خلاط وتبريز (جنوب تركيا وغرب إيران)، وإياز بن إيلغازي بن أرتق من ماردين، والأمير الكردي أحمديل أمير مراغة (في أذربيجان)، والأمير برسق أمير همذان وأولاده الأميران إيلبكي وزنكي، وأبو الهيجاء أمير إربل[23] (خريطة 23).
لقد كان تجمعًا كبيرًا حقًّا! ولكننا تعلمنا أن العبرة ليست بالأعداد، ولكن بالنوعيَّة، وفي كل هؤلاء لم نكن نرى فيهم من فهم القضية بعمق، وبذل فيها بصدق، إلا مودود ومن معه من أهل الموصل، أما غيرهم من الأمراء فإنهم جاءوا طائعين لأمر السلطان محمد لا طائعين لأمر الله، وشتَّان!
وخرج الجيش الكبير في شهر محرم (505) تموز 1111م، وبدأ فورًا في عدة عمليات شرق الفرات تستهدف إسقاط القلاع الصليبية في هذه المنطقة تمهيدًا لحصار مدينة الرها ذاتها، وبالفعل سقط عدد من المواقع الصليبية، ووصل الجيش في سهولة إلى مدينة الرها، وبدأ الحصار!
كانت مدينة الرها على حصانتها المعهودة، بل إن الصليبيين عندما علموا بقدوم الجيش الإسلامي أمدوها بكثير من المؤن والغذاء لتصبر على الحصار الطويل، ولم يعزم الصليبيون أبدًا على الخروج لحرب المسلمين، وكانت النتيجة أن شعر مودود أن الوقت يضيع بلا فائدة، فحصون المدينة أشد من أن تسقط[24]!
ماذا يفعل مودود؟!
لقد قرَّر أن يكون واقعيًّا، وأن يفك الحصار عن الرها المنيعة، ويتجه إلى غيرها من حصون الصليبيين، وعليه فقد غادر الجيش الرها إلى المدينة الثانية في إمارة الرها وهي مدينة تل باشر غرب الفرات، والتي كان على رأسها جوسلين دي كورتناي القائد الصليبي المشهور[25].
وحاصر الجيش الإسلامي مدينة تل باشر حصارًا محكمًا، وحاول بكل طاقته أن يفتح أبوابها، أو أن يهدم أسوارها، لكنها كانت منيعة كالرها[26]!
ومرت الأيام صعبة على المسلمين دون بادرة تغيُّر في الموقف، وفي هذه الأثناء جاءت رسالتان من الشام تحملان استغاثة إلى الأمير مودود.
أما الرسالة الأولى فكانت من أمير شيزر سلطان بن منقذ يخبر فيها أن جيوش تانكرد أمير أنطاكية تهاجم مدينته، وأما الرسالة الثانية فكانت من الخبيث رضوان الذي أبدى رغبته في التعاون مع الجيوش الإسلامية ضد تانكرد أمير أنطاكية الذي يهاجم حلب كما يهاجم شيزر[27]، ولا شك أن هذه كانت رسائل مفزعة للجيش الإسلامي لأنَّ سقوط مدن إسلامية جديدة، وخاصةً إن كانت كبيرة مهمة كحلب، سوف يؤدي إلى تعقيد الموقف أكثر، وتقوية الصليبيين بدرجةٍ أكبر.
وتردَّد الأمير مودود في رفع الحصار عن تل باشر، خاصةً أن رضوان غير مأمون، غير أنَّ الشر والخبث لم يكن عند رضوان فقط! فقد وصل جوسلين دي كورتناي أمير تل باشر إلى أحمديل أمير مراغة، وأجرى معه مباحثات سرية وَعَده فيها بوعودٍ نظير إقناع الجيش المسلم بفك الحصار عن تل باشر! إنها الخيانة في أرض الجهاد، والطعن في الظهر للجيش الذي يُعلِّق المسلمون عليه آمالهم!
واستطاع أحمديل أن يقنع القادة المزعومين بضرورة التوجُّه لنصرة رضوان، واجتمع الأمراء على ذلك، واضطر مودود إلى الموافقة، ورفع الحصار عن تل باشر بعد مرور خمسة وأربعين يومًا كاملة[28].